التَّضْحية لغةً: مصدر ضحَّى، يقال: ضحَّى بنفسه أو بعمله أو بماله أي بذله وتبرع به دون مقابل. وهي بهذا المعنى محدثة.
ومعنى التَّضْحية اصطلاحًا: هو بذل النَّفس أو الوقت أو المال لأجل غاية أسمى، ولأجل هدف أرجى، مع احتساب الأجر والثواب على ذلك عند الله عزَّ وجلَّ، والمرادف لهذا المعنى: الفداء ومن معانيها: البذل والجهاد.(1)
على مر العصوروالأزمان شهد العالم الإنساني من التضحيات الكثيرة، وقد تميزت تضحية الإمام الحسين عليه السلام بأنها خلدة مادامت السماوات والأرضون حية في الوجدان الإنساني.
إنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) من أبرز مَن خلّدتهم الإنسانية في جميع مراحل تاريخها. ومن أروع مَن ظهر على صفحات التاريخ من العظماء والمصلحين الذين ساهموا في بناء الفكر الإنساني، وتكوين الحضارة الاجتماعية، وبلورة القضايا المصيرية لجميع شعوب الأرض.
إنّ الإمام أبا الأحرار من ألمع القادة المصلحين الذين حقّقوا المعجز على مسرح الحياة، وقادوا المسيرة الإنسانية نحو أهدافها وآمالها، ودفعوا بها إلى إيجاد مجتمع متوازن تتحقّق فيه الفرص المتكافئة التي ينعم فيها الناس على اختلاف قوميّاتهم وأديانهم.
لقد كان الإمام من أكثر المصلحين جهاداً وبذلاً وتضحية، فقد انطلق إلى ساحات الجهاد مع كوكبة من أهل بيته وأصحابه مضحّياً بنفسه وبهم ؛ ليُقيم في ربوع هذا الشرق حُكم القرآن وعدالة السماء الهادفة إلى تقويض الظلم، وتدمير الجور وإزالة الاستبداد، وإقامة حُكم عادل يجِد فيه الإنسان أمنه وكرامته ورخاءه حسب ما تقتضيه عدالة الله في الأرض ؛ ومن ثمّ كانت حياة الإمام في جميع العصور والأجيال رمزاً للعدل، ورمزاً لجميع القِيَم الإنسانية.
إنّ أغلب حياة المصلحين الذين وهبوا حياتهم لاُممهم وشعوبهم، تبقى مشعّة تعطى ثمارها ونِتاجها للناس، ولكن في فترة خاصّة ومحدودة من الزمن، لم تلبث أن تتلاشى كما يتلاشى الضوء في الفضاء.(2)

أمّا حياة الإمام الحسين (عليه السّلام) فقد شقّت أجواء التاريخ وهي تحمل النور والهدى لجميع الناس، كما تحمل شارات الموت والدمار للمخرّبين والظالمين في جميع الأجيال.
لقد تفاعلت حياة الإمام الحسين مع أرواح الناس وامتزجت بعواطفهم ومشاعرهم، وهي نَديّة عاطرة تتدفّق بالعزّة والكرامة، وتدفع المجتمع إلى ساحات النضال لتحقيق أهدافه وتقرير مصيره.
إنّها مدرسة الأجيال الكبرى التي تفيض بالخير والعطاء على الناس جميعاً متّفقين ومختلفين، فهي تغذّيهم بالوفاء والصبر، وتدفعهم إلى الايمان بالله، وتعمل على توجيههم الوجهة الصالحة، المتّسمة بالكرامة وحسن السلوك، كما تعمل على تهذيب الضمائر، وتكوين العواطف وتنمية الوعي.
فهي أجدر بالبقاء من كل كائن حي، بل أحقّ بالخلود من هذا الكوكب الذي يعيش فيه الإنسان ؛ لأنّها إطار لأسمى معاني الكرامة الإنسانية.(3)

لقد كانت نهضة الإمام الحسين ( عليه السّلام ) وثورته بركانا تفجّر في تاريخ الرسالة الإسلامية وزلزالا صاخبا أيقظ ضمير المتقاعسين عن نصرة الحقّ، والكلمة الطيبة التي دعت كلّ الثائرين والمخلصين للعقيدة والرسالة الإسلامية إلى مواصلة المسيرة في بناء المجتمع الصالح وفق ما أراده اللّه تعالى ورسوله ( صلّى اللّه عليه واله ) .(4)
وقد نهج الإمام الحسين ( عليه السّلام ) منهج الصراحة والمكاشفة موضّحا للامّة الخلل والزيغ والطريق الصحيح، فها هو بكل جرأة يقف أمام الطاغية يحذّره ويمنعه عن التمادي في الغيّ والفساد . . . فهذه كتبه ( عليه السّلام ) إلى معاوية واضحة لا لبس فيها ينذره ويحذّر من الاستمرار في ظلمه ويكشف للامّة مدى ضلالته وفساده(5).
وبكلّ صراحة وقوّة رفض البيعة ليزيد بن معاوية، وقال موضّحا للوليد ابن عتبة حين كان واليا ليزيد: « إنّا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة ومحل الرحمة، بنا فتح اللّه وبنا ختم، ويزيد فاسق فاجر، شارب للخمر، قاتل النفس المحترمة، معلن بالفسق والفجور، ومثلي لا يبايع مثله »(6).
وكانت صراحته ساطعة مع أصحابه ومن أعلن عن نصرته، ففي أثناء المسير باتّجاه الكوفة وصله نبأ استشهاد مسلم بن عقيل وخذلان الناس له، فقال ( عليه السّلام ) للذين اتّبعوه طلبا للعافية: « قد خذلنا شيعتنا فمن أحبّ منكم الانصراف فلينصرف غير حرج، ليس عليه ذمام »(7)
فتفرّق عنه ذوو الأطماع وضعاف اليقين، وبقيت معه الصفوة الخيّرة من أهل بيته وأصحابه، ولم يخادع ولم يداهن في الوقت الذي كان يعزّ فيه الناصر .
وقبل وقوع المعركة أذن لكل من كان قد تبعه من المخلصين في الانصراف عنه قائلا: « إنّي لا أعلم أصحابا أصحّ منكم ولا أعدل ولا أفضل أهل بيت، فجزاكم اللّه عنّي خيرا، فهذا الليل قد أقبل فقوموا واتّخذوه جملا، وليأخذ كلّ رجل منكم بيد صاحبه أو رجل من إخوتي وتفرّقوا في سواد هذا الليل، وذروني وهؤلاء القوم، فإنّهم لا يطلبون غيري، ولو أصابوني وقدروا على قتلي لما طلبوكم »(8).
والحقّ أنّ من يطالع كلّ تفاصيل نهضة الإمام الحسين ( عليه السّلام ) سيجد الصدق والصراحة والجرأة في كلّ قول وفعل في جميع خطوات نهضته المباركة .(9)

تجسدت تضحية الإمام الحسين عليه السلام في تقديمه نفسه وأهله وعياله وأمواله وكل ما يملك فداء للشريعة السمحاء وحفاظاًعلى مبادئ الدين الإسلامي، فقد أثمرت تضحيته من خلال نصرة الجين، وتحقيقه للتكافل بين طبقات المجتمع انذاك، فضلا عن تقوية الأمة وتحقيق التماسك يما بينها وتقوية بنيانها لمحاربة الأعداء من المنافقين والكافرين ومن سار على خطهم، وحققّت تضحية الإمام الحسين عليه السلام التراحم بين المؤمنين منذ يوم الطف إلى يومنا
هذا .
إنّ لشخصية المضحي أبعاد وعوامل متعددّة تؤثر في التضحية تأثيرا شموليا وليس تجزيئيًا يتم على وفقها تقييم أثر تلك التضحية ومن هذه العوامل:

  1. شخصية المضحي
  2. هدف التضحية
  3. طبيعة التضحية
  4. حجم التضحية
  5. نتائج التضحية

أما شخصية المضحي فهو الإمام الحسين الذي قال فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ): “حسينٌ مني وانا من حسين ” (11 )(صلى الله عليه وآله وسلم): ” الحسن والحسين امامان قاما أو قعدا”(12) وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) فيه لابنته فاطمة (عليها السلام): (وجعلتُ حسيناً خازن وحيي) (13)فما أعظمها من شخصية ؟

أما هدف التضحية فكان الآخرة، قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا﴾ “الإسراء: 19″، واما طبيعة التضحية فخير كلام يمثلها قول المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم): “ولاقول ولا عمل ولا نيّة إلّا بإصابة السُّنة”(14)، أي ان تكون التضحية لله وفي خط الله .(15)

أما حجم التضحية فقد جاء في الحديث الشريف: “أفضل الأعمال أحمزها”(16)، فلا نجد تضحية أعظم من تضحية سيد الشهداء عليه السلام فقد ضحى بلا حد في سبيل الله ودينه .(17)
ونتيجة تلك التضحية العظيمة لسيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام بقاء الدين الإسلامي، فكل صلاة يصليها المسلم في أي بقعة من الكرة الأرضية فهو مدين فيها لتضحيات الإمام الحسين عليه السلام، فبعد ان وجد بني أمية أنهم غير قادرين على الانتصار في الحرب ضد بني هاشم، دخلوا إلى الإسلام ليحطموه من الداخل ‘؛فجابه الحسين عليه السلام الشرك والنفاق المتمثل بهم وأنقذ بدمائه وتضحياته الجسام الدين الإسلامي من براثن بني أمية .(18)

المصادر:
1_معجم المعاني .
2_حياة الإمام الحسين: 1/10.
3-حياة الإمام الحسين: 1/11.
4 _أعلام الهداية: 5/44-45
5_ – الإمامة والسياسة: 1 / 189 – 195 .
6_ الفتوح: 5 / 14 .
7_ الإرشاد: 2 / 75 .
8_ الفتوح: 5 / 105 .
9_ أعلام الهداية: 5/44-45
10_الإمام الحسين عظمة إلهية وعطاء بلا حدود: 20.
11-يُنظر، المصدر نفسه: 22.
12- البحار: ١٠ / ١٠١.
13_الكافي: 1/582
14_فقه الرضا: 379.
15_يُنظر: الإمام الحسين عظمة إلهية وعطاء بلا حدود: 25.
16_جواهر الكلام: 4/265.
17_ يُنظر: الإمام الحسين عظمة إلهية وعطاء بلا حدود: 27.
18_يُنظر: المصدر نفسه .