إنّ اسم «كربلاء» لم يذكر في تراث العرب القديم ، وإنّما جاء على لسان الغيب ، وسمعه العرب لأوّل مرّة في حديث النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ، فيما رواه سعيد بن جهمان قال :
إنّ جبرئيل أتى النبي (صلّى الله عليه وآله) بتراب من تربة القرية التي يُقتل فيها الحسين (عليه السّلام).
وقيل : اسمها «كربلاء».
فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : «كربٌ وبلاءٌ» .(1)
قول أمير المؤمنين(ع) في قتل الحسين (ع) وقول الحسين له في ذلك
عن أبي عبد الله الجدلي، قال: دخلت على أمير المؤمنين والحسين (عليهما السلام)إلى جنبه، فضرب بيده على كتف الحسين (عليه السلام) ثم قال: إن هذا يقتل ولا ينصره أحد، قال: قلت: يا أمير المؤمنين والله إن تلك لحياة سوء، قال: إن ذلك لكائن.(1)
وورد عن علي بن حماد، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي عبد الله (ع) قال:
قال :علي (عليه السلام)للحسين (عليه السلام) يا أبا عبد الله أسوة أنت قدما (2) فقال: جعلت فداك ما حالي، قال: علمت ما جهلوا وسينتفع عالم بما علم، يا بني اسمع وابصر من قبل أن يأتيك، فوالذي نفسي بيده ليسفكن بنو أمية دمك ثم لا يزيلونك عن دينك، ولا ينسونك ذكر ربك، فقال الحسين: والذي نفسي بيده حسبي أقررت بما أنزل الله واصدق قول نبي الله ولا اكذب قول أبي (3)
وعن محمد بن جعفر الرزاز، عن خاله محمد بن الحسين، عن نصر بن مزاحم، عن عمرو بن سعيد عن يزيد بن إسحاق، عن هاني بن هاني، عن علي (عليه السلام)، قال: ليقتل الحسين قتلا، وإني لأعرف تربة الأرض التي يقتل عليها قريبا من النهرين .(4)

وممّا نقله ابن عساكر : عن عليّ (عليه السّلام) قال : «دخلت على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وعيناه تفيضان ، فقلت : يا نبيّ الله ، أغضبك أحدٌ؟ ما شأن عينيك تُفُيضان؟
قال : بل قام من عندي جبرئيل قبلُ ، فحدّثني أنّ الحسين يُقتل بشطّ الفرات» (6)

ولمّا حَاذى أمير المؤمنين (عليه السّلام) نينوى وهو منطلق إلى صفّين نادى : «صبراً أبا عبد الله ، صبراً أبا عبد الله بشطّ الفُرات».
قلتُ : مَنْ ذا أبو عبد الله؟
قال عليّ (عليه السّلام) : «دخلت على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وعيناه تُفيضان … فقال : قام من عندي جبرئيل قبلُ ، فحدّثني أن الحسين يُقتل بشطّ فرات …» .(7)
أخبر أمير المؤمنين علي (ع) بقتل الحسين (ع) هذا في حال مسيره إلى صفين ، وقد صرح بذلك مرة أخرى حينما رجع من صفين ، قال الراوي :
أقبلنا مرجعنا من صفّين فنزلنا كربلاء ، فصلّى بها عليّ صلاة الفجر بين شجرات ودوحات حَرْمَل ، …. ثم قال : «اُوّهْ اُوّهْ! يُقتلُ بهذا الغائط_المنخفض من الأرض_ قومٌ يدخلون الجنّةَ بغير حساب» (8.(8)

كربلاء في الصحف الأُولى

إنّ رجالاً من أهل الأديان قد تناقلوا بعض تلك الأنباء :
فهذا كعب الأحبار كان إذا مرَّ عليٌّ (عليه السّلام) يقول : يخرج من وُلد هذا رجلٌ يُقتل في عصابة لا يجفُّ عرق خيولهم حتّى يردوا على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) .(9)

وكان رأسُ الجالوت ـ وهو من أولاد الأنبياء السابقين ـ يقول : كُنّا نسمع أنّه يُقتل بكربلاء ابنُ نبيٍّ ، فكنتُ إذا دخلتُها ركضتُ فرسي حتّى أجوزَ عنها ، فلمّا قُتل حُسَينٌ جعلتُ أسير بعد ذلك على هيئَتي .(10)

فلا بدّ أن يكون هذا الاسم موضوعاً على تلك القرية ، لكن تداولها بدأ منذ هذا الحديث ، وأمّا استيحاء «الكرب» و «البلاء» منه فلم يؤثر إلاّ من هذا النصّ ، بالرغم من إيحاء حروف الكلمة ودلالتها التصوّرية التي لا يمكن إنكارها.
وعليّ (عليه السّلام) أيضاً سأل عن هذا الاسم واستوحى منه نفس الوحي.(11)

قال الراوي : رجعنا مَعَ عليّ من صِفّين ، فانتهينا إلى موضع ، فقال : «ما يُسَمّى هذا الموضع؟».
قلنا : كربلاء.
قال : «كربٌ وبلاءٌ».
ثم قَعَدَ على رابِية وقال : «يُقتل ها هنا قومٌ أفضل شهداء على ظهر الأرض ، لا يكون شهداء رسول الله (صلّى الله عليه وآله)».
والحسينُ نفسُه حين نزلَ كربلاء تساءَلَ :
: «ما اسمُ هذه الأرض؟».
قالوا : كربلاء.
قال (عليه السّلام) : «كربٌ وبلاءٌ». (12)

وبعد حديث الغيب كان إحضار عيّنة من «تُربة كربلاء» التي تكرّر الحديث عنها دعماً من الرسول (صلّى الله عليه وآله) لكلّ ذلك الحديث بمصداق ونموذج من تُربتها ، لتكون دليلاً عينياً من دلائل النبوّة ومعجزاتها.(13)

جاء في حديث عليّ (عليه السّلام) أنّ جبرئيل قال للنّبي (صلّى الله عليه وآله) : هل أُشمّك من تُربته؟
«فمدّ يده فقبض قبضةً من تُراب فأعطانيها».
وفي حديث أنس :
فجاءه بسهلة أو تُراب أحمر ، فأخذته اُمّ سلمة فجعلتْه في ثوبها.
وفي حديث أبي أُمامة :
فخرج على أصحابه وهم جلوس … قال : «هذه تُربته» فأراهم إيّاها (14)
ولاُمّ المؤمنين اُمّ سلمة شأن أكبر مع هذه التربة ، فقد روت حديثه بشيء من التفصيل :
: … فاستيقظ وفي يده تُربة حمراء وقال : «أخبرني جبرئيل أنّ ابني هذا ـ الحسين ـ يقتل بأرض العراق … فهذه تُربتها.
… أهل هذه المدرة يقتلونه»!
بل زادها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) شرفاً بأن استودعها تلك التربة ، وكانت تحتفظ بها فيما روته ، قالت :
كان الحسن والحسين يلعبان بين يدي النبي (صلّى الله عليه وآله) في بيتي ، فنزل جبرئيل (عليه السّلام) فقال : يا محمّد ، إنّ أُمّتك تقتل ابنك هذا من بعدك ، وأومأ بيده إلى الحسين (عليه السّلام).
فبكى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وضمّه إلى صدره ثمّ قال : «وديعةٌ عندكِ هذه التُربة» فشمّها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وقال : «وَيْحَ كربٍ وبلاء! وقال : يا اُمّ سلمة إذا تحوّلت هذه التُربة دماً فاعلمي أنّ ابني قد قُتل».
فجعلتْها اُمّ سلمة في قارورة ، ثمّ جعلتْ تنظر إليها كلّ يوم وتقول : إنّ يوماً تحوّلين دماً ليوم عظيمٌ ! (15)

وهذه التفاصيل اختصّت بها اُمّ سلمة من بين زوجات النبيّ. (16)

أما حديث التُربة فقد رواه غيرها من النساء أيضاً :
فعائشة قالت :فأشار له جبرئيل إلى «الطفّ» بالعراق ، وأخذ تربة حمراء فأراه إيّاها فقال : هذه تربة مصرعه.
وزينب بنت جحش روت: فأراني تربة حمراء.
واُمّ الفضل ـ مرضعة الحسين (عليه السّلام) ـ قالت :وأتاني بتربة من تربته حمراء.(17)
والعجيب في أحاديثهنّ كلّهن ، وأحاديث مِن غيرهنّ أنها تحتوي على جامع مشترك هو «الحُمرة» لون الدم ، إلاّ أنّ حديثها احتوى على تحوّل التربة إلى «دَمٍ» في يوم عاشوراء.
فما هذه الأسرار التي تحتويها هذه الأخبار؟
وما سرّ هذه التُربة التي :
تُفيضُ دمعة الناظر إليها!
وتتحوّلُ إلى دم!
ولها رائحةٌ خاصّة!
وكان طيبها دليلاً عليها لمن يهواها :
فلمّا أُجريَ الماءُ على قبر الحسين (عليه السّلام) في عصر المتوكّل العبّاسي ـ نضب بعد أربعين يوماً ، وامتحى أثر القبر ، فجاء أعرابيٌ من بني أسد ، فجعل يأخذ قبضةً ويشّمها حتّى وقع على قبر الحسين وبكاه ، وقال : بأبي وأُمّي ما كان أطيبَك ، وأطيب تربتك ميتاً! ثمّ بكى وأنشأ يقول :
أرادُوا ليُخفوا قبره عن وليّه
فطِيبُ ترابِ القبر دلَّ على القبرِ (18)

وهل يمكن الاطّلاع على تلك الأسرار إلاّ من خلال أنباء الغيب التي تُوحيها السماءُ على سيّد الانبياء؟
وإنّ من أعظم دلائل النبوّة والإمامة تحقُّقُ تلك التنبُّؤات كلّها.
ولا تزال «تُربةُ كربلاء» ذاتها تتحوّلُ يوم عاشوراء إلى دَم قان.
ولا يزال الموالون للحسين (عليه السّلام) يعرفونها من رائحتها.
ولا زال تراب كربلاء يُقدَّس ، ويُتقربُ إلى الله بالسجود عليه لطهارته وشرفه عند الله ، ويُتبرّك به ، ويُستشفى به ، لأن دم الحسين (عليه السّلام) أُريق عليه في سبيل الله.
ولا زالتْ أرضُ كربلاء توحي المآسيَ والكربَ والبلاء ، وتجري عليها المصائبُ والآلامُ ، وتجري فيها أنهارُ الدماء!
لأنّها كربٌ وبلاءٌ! (19)

المصادر:

  1. 1. مختصر تاريخ دمشق : 7 / 13
  2. 2. كامل الزيارات :149_150.
  3. 3. كامل الزيارات :149_150
  4. 4. كامل الزيارات :149_150
  5. 5. كامل الزيارات :149_150
  6. 6- مختصر تاريخ دمشق : 7 / 134
  7. 7- مختصر تاريخ دمشق :7 / 133.
  8. 8- مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور 7 / 135.
  9. 9. مختصر تاريخ دمشق : 7 / 133
  10. 10. المصدر نفسه.
  11. 11. الإمام الحسين سيرته وسماته:77.
  12. 12. مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور 7 / 134
  13. 13. الإمام الحسين سيرته وسماته:77.
  14. 14. مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور 7 / 134.
  15. 15. المصدر نفسه .
  16. 16.الإمام الحسين سيرته وسماته :80.
  17. 17.مختصر تاريخ دمشق ـ لابن منظور 7 / 155
  18. 18.المصدرنفسه .
  19. 19.الإمام الحسين سيرته وسماته :80.