إن الباحث في أصل ثورة الإمام الحسين عليه السلام ضد حكم بني أمية أنذاك ، يلاحظ أنها كانت قائمة على أسس ومبادئ أرستها الأديان والشرائع السماوية كافة ، في تحرير الإنسان من قيود الذّل والعبودية والرَّق كافة ، والحفاظ على شريعة سيد المرسلين صلّى الله عليه وآله وسلم ورفع الظلم والحيف عن المسلمين خصوصاً وحفظ كرامتهم وحقوقهم .
مثلت ثورة الإمام الحسين عليه السلام كل القيم والمبادئ الساميّة ، فكانت تحدياً بارزاً في وجه الظالمين والطغاة وعروشهم المبنية على جماجم الرعية ، وسلب حقوقهم والاستخفاف بها ، والتضييق الشديد على اتباع أهل البيت ، والعمل على تصفية أعيانهم ، وعدم قبول شهادتهم ، وغير ذلك من وسائل الترهيب التي كانت تمارسها حكومة بني أمية ، ولاسيما بعد تولي يزيد الخارج عن طاعة الله الخلافة وقد “وذُعِرَ المسلمون حينما وافتهم الأنباء بتصميم معاوية على فرض ابنه خليفة عليهم ، وكان مِنْ أشدّ المسلمين خوفاً المدنيون والكوفيون ، فقد عرفوا واقع يزيد ، ووقفوا على اتجاهاته المعادية للإسلام…. لقد كان إقدام معاوية على فرض ابنه يزيد حاكماً على المسلمين تحوّلاً خطيراً في حياة المسلمين الذين لمْ يألفوا مثل هذا النظام الثقيل الذي فُرِضَ عليهم بقوّة السّلاح “(1)
ومن هنا فإن حكم فرض بقوة السلاح لابد أن يجابه بثورة عظيمة لإزالته ، وأعلن الأحرار والمصلحون في العالم الإسلامي رفضهم القاطع لبيعة يزيد ، ولمْ يرضوا به حاكماً على المسلمين ،وفي طليعة المعارضين لبيعة يزيد الإمام الحُسين عليه السلام ، فقد كان يحتقر يزيد ويكره طباعه الذميمة ، ووصفه بأنّه صاحب شراب وقنص ، وأنّه قد لزم طاعة الشيطان وترك طاعة الرحمن ، وأظهر الفساد ، وعطّل الحدود ، واستأثر بالفيء ، وأحلّ حرام الله وحرّم حلاله (1). وإذا كان بهذه الضِعة ، فكيف يبايعه ويقرّه حاكماً على المسلمين؟!
ولمّا دعاه الوليد إلى بيعة يزيد قال له الإمام (عليه السّلام): «أيّها الأمير ، إنّا أهل بيت النّبوة ، ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة ، بنا فتح الله وبنا يختم ، ويزيد رجل فاسق ، شارب الخمر ، وقاتل النّفس المحترمة ، معلن بالفسق ، ومثلي لا يبايع مثله».
ورفض بيعة يزيد جميع أفراد الأُسرة النّبوية تبعاً لزعيمهم العظيم ، ولمْ يشذّوا عنه.(2)
إن تصريح الإمام الحسين عليه السلام برفض البيعة ، وبيان حقيقة يزيد ونزع القناع الديني عنه وعن حكام بني أمية الذي تستروا به لشرعنة أعمالهم وتسلطهم على رقاب الناس ،كان هدفاً بليغاً و واضحاً لتوعية المجتمع الإسلامي وكشف زيف اداعاءت الأمويين بأحقية الخلافة ، وإسقاط شرعيتهم وكشف مأربهم الدنيويّة التي باتوا يحققوها بمسمّى الدين من جهة ، وفضح المتملقين ووعاظ السلاطين وفقهاء الحكومة الموية الذين كانوا يخدعون عامة الناس من اجل التكسب والعطاء ونيل الحظوة لدى السلاطين من جهة اخرى .
إن العداوة بين الحُسين وبين بني أُميّة ذاتية ، فهي عداوة الضد للضد ، وقد سأل سعيد الهمداني الإمام الحُسين عن بني أُميّة ، فقال عليه السلام : «إنّا وهم الخصمان اللذان اختصما في ربّهم» (3).
أجل ، إنّهما خصمان في أهدافهم ، وخصمان في اتّجاههم ، فالحُسين عليه السلام كان يُمثّل جوهر الإيمان بالله ، ويُمثّل القيم الكريمة التي يشرف بها الإنسان ، وبنو أُميّة كانوا يُمثّلون مساوئ الجاهلية التي تهبط بالإنسان إلى مستوى سحيق ، وكان الاُمويّون بحسب طباعهم الشريرة يحقدون على الإمام الحُسين ، ويبالغون في توهينه ، وقد جرت منازعة بين الحُسين وبين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان في مال كان بينهما فتحامل الوليد على الحُسين في حقّه ، فثار الإمام في وجهه ، وقال : «أحلف بالله لتنصفي مِنْ حقّي أو لآخذنّ سيفي ، ثمّ لأقومنّ في مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأدعونّ بحلف الفضول».
لقد أراد أنْ يُحيي حلف الفضلول الذي أسسه الهاشميون ، والذي كان شعاره إنصاف المظلومين والأخذ بحقوقهم ، وقد حاربه الاُمويّون في جاهليتهم ؛ لأنّه يتنافى مع طباعهم ومصالحهم. (4)
إن المتتبع لهذه الإحداث يصل إلى نتيجة مفادها إن الإمام الحُسين (عليه السّلام) لمْ يفجّر ثورته الكبرى أشِرَاً ولا بطرَاً ، ولا ظالماً ولا مفسداً ـ حسب ما يقول ـ وإنّما انطلق ليؤسس معالم الإصلاح في البلاد ، ويحقّق العدل الاجتماعي بين الناس ، ويقضي على أسباب النكسة الأليمة التي مُنِي بها المسلمون في ظلّ الحكم الأموي الذي ألحق بهم الهزيمة والعار، لقد انطلق الإمام ليصحّح الأوضاع الراهنة في البلاد ، ويُعيد للأُمّة ما فقدته من مقوّماتها وذاتياتها ، ويُعيد لشرايينها الحياة الكريمة التي تملك بها إرادتها وحريتها في مسيرتها النضالية لقيادة أُمم العالم في ظلّ حكم متوازن تُذاب فيه الفوارق الاجتماعية ، وتُقام الحياة على أسس صلبة من المحبّة والإخاء ، إنّه حكم الله خالق الكون وواهب الحياة ، لا حكم معاوية الذي قاد مركبة حكومته على إماتة وعي الإنسان وشلّ حركاته الفكرية والاجتماعية.
لقد فجّر الإمام (عليه السّلام) ثورته الكبرى التي أوضح الله بها الكتاب ، وجعلها عبرة لأولي الألباب ، فأضاء بها الطريق وأوضح بها القصد وأنار بها الفكر ، فانهارت بها السّدود والحواجز التي وضعها الحكم الاُموي أمام التطوّر الشامل الذي يريده الإسلام لأبنائه ، فلمْ يعد بعد الثورة أيّ ظلّ للسلبيات الرهيبة التي أقامها الحكم الاُموي على مسرح الحياة الإسلاميّة ، فقد انتفضت الأُمّة ـ بعد مقتل الإمام ـ كالمارد الجبّار وهي تسخر مِن الحياة وتستهزأ بالموت ، وتزجّ بأبنائها في ثورات متلاحقة حتّى أطاحت بالحكم الاُموي واكتسحت معالم زهوه، ولمْ يقدم الإمام على الثورة إلاّ بعد أنْ انسدّت أمامه جميع الوسائل ، وانقطع كلّ أمل له في إصلاح الأُمّة ، وإنقاذها مِن السلوك في المنعطفات ، فأيقن أنّه لا طريق للإصلاح إلاّ بالتضحية الحمراء ، فهي وحدها التي تتغيّر بها الحياة ، وترتفع راية الحقّ عالية في الأرض. (5)
وكان من نتائج هذه الثورة المباركة زوال حكم الظالمين ، وإعلاء كلمة الدين وتحريك الضمائر، فثارت جموع المؤمنين بعد واقعة الطف رافضة الظلم الإذلال مقتديةّ بثورة سيد الشهداء عليه السلام و” قد تأثر زعمائها وقادتها البارزون بالنهضة الحسينية ومضامينها ودلالاتها، وقد اتخذوا من الأمام الحسين (عليه السلام) مثلاً أعلى لهم، إذ ان تلك الثورات المتلاحقة قد اقلقت مضاجع الأمويين وهزت عروشهم حتى انتهت بسقوط دولتهم، ومن تلك الثورات ثورة التوابين التي قامت بعد واقعة كربلاء بهدف الثأر للأمام الحسين عليه السلام واصحابه الذين استشهدوا هناك، وكانت بقيادة سليمان بن صرد الخزاعي عام 65 هـ / 684 م ، وثورة المختار بن أبي عبيد الثقفي التي قام بها طلباً للثأر بدم شهداء كربلاء عام 66 – 67 هـ/ 685 –686 م، وغيرها من الثورات التي انتهت بسقوط الدولة الأموية، بعد ان ازاحت ثورة الامام الحسين عليه السلام عنها شرعيتها المزعومة ومهدت الطريق لكل الأحرار من أجل مقاومة الظلم والاستبداد الأموي” (6)
المصادر:
- ↑حياة الإمام الحسين :2/208 ، الشيخ العلامة باقر شريف القرشي.
- ↑يُنظر: المصدر نفسه.
- ↑حياة الإمام الحسين :2/234 ، الشيخ العلامة باقر شريف القرشي.
- ↑يُنظر: المصدر نفسه.
- ↑يُنظر: حياة الإمام الحسين :2/269_270.
- ↑يُنظر:مقال ثورة الأمام الحسين (عليه السلام) واسقاط شرعية الحكام الطغاة ، أ . م . حيدر خضير مراد.
اترك تعليق